بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بالحسنى إلى يوم الدين.
وبعد:
فقد افتتحت محاضرة الشيخ العلامة أبي الطيب مولود السريري ذات العنوان: «الصناعة الفقهية»، بتلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم، بعدها تقدم الأستاذ المسير جمال المرحوم بكلمة تقديمية لفضيلة الشيخ وطبيعة موضوع محاضرته، بعدها تقدم أستاذي الدكتور محيب عبد المجيد للثناء على الشيخ والترحيب به، ثم كلمة ختامية للمتحدث باسم اللجنة الثقافية الطلابية لدار الحديث ألقى فيها قصيدة شعرية مدحا وثناء على الشيخ وبهاء وسرورا بشرف حضوره وحبوره.
[كلمة الشيخ الأصولي مولود السريري]
بعد الحمد لله والصلاة على رسوله، أشار الشيخ إلى مقدمة بين يدي موضوعه تناول فيها الإشارة إلى: صيحات معاصرة ودراسات تبحث في تجديد النظر إلى المادة الفقهية والمنهجية الأصولية، باعتبار طرفي النداء، المتمثل في المثقفين الذي يجهلون حقائق وغوامض المادة الأصولية، والمنهج الفقهي البنائي للأحكام الشرعية، من خلال اعتبارات مجانبة للصواب في مجملها، ومثل لذلك بما يروجون له من ظلم الشريعة للجنس الأنثوي، وقيامها على التمييز في جزئياتها وأحكامها بين المخاطبين ذكورا وإناثا. والطرف الثاني المتمثل في الباحثين والمتخصصين في الفقه والأصول، الذين أفرغوا المادة الأصولية من محتواها التقعيدي الانضباطي الذي يوجه مسالك النظر، ويضبط مسارات البحث المنهجي.
بعد هذا المدخل التمهيدي شرع في تعريف الصناعة الفقهية بكونها (لفظ الشيخ بحرفه إلى ختام المقال): ملكة علمية يقتدر بها على التصرف المضبوط المسدد بالقواعد والضوابط العلمية التي أوجب الشارع ثم العقل وواقع أمر الشيء المنظور فيه اعتبارها والعمل بموجبها.
هذه الملكة متجلاها الانضباط النفسي والفكري بمادة هذا العلم (الفقه) قواعده وأصوله، والتنبه لما يحق أن يُتنبه له من طوارئ وأحوال قائمة بها، واقعة أو متوقعة، ما كانت مناطاتٍ معتبرة في الأحكام مع نفاذ النظر إلى موجبات حقائق موضوع النظر ولوازمه.
إذن: فهذه ملكة إذا قامت بالشخص ألزمته في أمر بناء اﻷحكام الفقهية بأمور نفسية، وأمور فكرية، وإذا قام به هذا الأمر فقد قامت به هذه الصناعة. إلا أن هذا كلَّه يتفصل إلى أحوال وأفعال جزئية خاصة، نفسية وعقلية، تصدر عمن قامت به هذه الصناعة وهي كثيرة، ولكن تختصر في أمور:
[خصوصيات الفقيه]
أحدها: خصوصية الاستحضار؛ الخصوصية الأولى للفقيه، الذي ينضوي تحته استحضار الحجج العلمية الخاصة بالموضوع المنظور فيه، دليلا كان أو موضوع حكمٍ، مع التمسك بفك المضامين الدالة على الحكم، والتنبه للطوارئ.
وفي هذه الحالة يكون النظر خاصا، وذلك لأن الجزئية التي ينظر فيها تستدعي أمورا يجب عليه أن يستحضرها، وهذا لا يختص بموضوع النظر وحده، بل يختص بالدليل الذي ينظره، فلو أن إنسانا سئل عن مسألة ولم يكن قد قامت به هذه الصناعة فإنه لا شك أنه سيستحضر اعتبارات وأمور لا علاقة لها بالطريقة الفقهية في تلك الجزئية، وذلك تجده واضحا في التناقش الذي يكون بين الفقيه والعامي، فهذه الخصوصية هي أول ما يتميز به الفقيه.
وهذا الاستحضار هو الذي تنضبط به الحركة النظرية، ومعنى هذا الكلام: أنك إذا سألت الفقيه عن مسألة في البيع، فإنه يلزمه أن يستحضر في تلك الجزئية أمورا تخص ذلك الموضوع، هذه الأمور التي يستحضرها يكون مبتناها على ما تقرر في الشرع بأدلة مختلفة، وإن استحضر ذلك انضبطت له الحركة حينئذ فيبني عليها ما سيأتي.
ثانيها: خصوصية الاعتبار؛ ومتجلى هذا في أمور، أهمها التمييز بين ما يجب إلغاؤه وما يجب اعتباره من المناطات المتدافعة، والأدلة المتعارضة في الظاهر، يعني أن ما يكون الفقيه متميزا به، هو قوة التمييز بين الجهات التي يجب أن يعتبرها والجهات التي يجب أن يلغيها، وهذا معتركنا الآن بين أرباب الفقه وبين المثقفين.
فالمثقف يميل في العادة إلى التمسك ببعض المسائل التي يرى بأن الشريعة تعتبرها، فيتمسك بها في تلك الجزئية مع جهله بمواضع الاختصاص، حينما تعرض قضية من القضايا الفقهية تجد كثيرا من الناس يندفعون إلى اعتبار المصلحة أو الحاجة أو ما شابه ذلك في نقل الحكم، أو يغريه الإحسان والتخفيف والتيسير، ورأى أن هذا أمر عام شرعي فيبني عليه الأحكام، ولا يلتفت إلى النظر في الموضوع هل يقبل هذا الأمر أو لا يقبله.
وذلك أن الصفات العامة المعتبرة في الفقه، إنما تعتبر مع وجود الشروط وارتفاع الموانع، ولكنَّ هذا إنما يصل إلى معرفته الفقيه الذي تمرس في الترجيح بين المتعارضات، قد ظهر في هذا الزمان أناس يقولون: إن طريقة نظر الفقهاء فيها انحراف حيث ألغوا أمورا كان من الواجب عليهم أن يعتبروها؛ لأن الشريعة تقصدها، فيقولون بأن هذا المنحنى يجب أن يرد إليه مبدأ النظر في بناء الفقه.
هذه مسألة مع ما فيها من الكلام الطويل عند التحقيق في كل جزئية، هي ما سيعتبره الفقيه أمرا ملغى باعتبار أن الشريعة قد بنيت على الرجحان، وليس على وجود المناط؛ لأنه ما من مسألة تعرض كما كانت، إلا وفيها هذا التعارض، جانب المصلحة، جانب المنفعة في كل شيء، حتى في المحرمات، ولكن ضعف التمييز بين الأشياء سهل على الناس ألا يميزوا بين المقامين.
ثالثها: خصوصية الإحساس؛ القائم على العقيدة الإسلامية والأخلاق، وأساس هذا الإحساس أو مرجعه إلى العدل، وهو يلفى متجلى في الأحكام الفقهية الخاصة بالضعفاء والصبيان كالنساء والعاجزين، هذا الإحساس ينظم جزئيات الفقه، فإن هذا الأمر معتبر في بناء الأحكام الفقهية، وليس كما يخيل للبعض، أن هذا الضرب من الأخلاف لا يبنى عليه الفقه، الإحساس الذي يجب أن يتصف به المسلم، يجب أن يكون أيضا مما يعتبر في بناء الأحكام.
وهذا تجده كما ذكرنا في اعتبار الأحكام التي تكون على هؤلاء الناس، الضعفاءِ والصبيان والنساء والعاجزين، ومن ظن أن الفقه الإسلامي لم يبن على هذا ولم ينظم جزئياته، فهو لن يستفيد من الغرض في المسألة.
ويتجلى ذلك أيضا في التسوية بين الألم البدنى والألم النفسي، وهذا يجري في الأحكام المجراة بموجب حفظ الدين، وفي المرونة في العمل بالدليل، التسوية بين الألم البدني والنفسي هو مما قام عليه هذا الدين، وذلك لأن الألم النفسي قد يكون أشد وأنكر من الألم البدني، ومن ثم فرق الفقهاء بين أرباب المناصب وغيرهم، كما تجد ذلك في تنزيل الأحكام في باب الإكراه. الإكراه في شأن الإنسان ذي المروءة والمنزلة يعتبر فيه الإهانة، وعدوا فيه من ذلك ضرب قفاه، وضرب قفا ذي المروءة يعدونه مما يعتبر من أسباب الإكراه؛ لأن ذا المروءة لو ضرب على قفاه أمام الملإ من الناس كان ذلك أشد عليه من الضرب البدني، ولم يعتبروا ذلك في غيره لارتفاع العلة، ومثل ذلك: منعهم تزويج الشريفة ممن ليس كذلك، لما تجده في حياتها من العنت والعذاب النفسي، ولأنها تعيش في الضنك ومشقة الحياة، فمنعوا هذا الأمر رفعا للضرر النفسي الذي يقع عليها، وقد اعتبر جمع من الناس أن هذا من باب العنصرية، ومن باب التفريق بين الناس باعتبار مراتبهم في الدنيا، وأن فيها اعتبارا للقبلية أو المناصب أو المكاسب أو ما شابه ذلك مما يسخر منه الفقيه.
ثم إن الفقيه يحس بأن مبتنى الفقه في هذا الباب الأهلية، ومن ثم فهو يلغي الذكورة والأنوثة والطول والقصر، إلا من باب الأهلية، هذا أصل شرعي، والذين يقولون بأن الفقه قد مس النساء أو حابى الرجال أو ما شابه ذلك، إنما يقولونه عن جهل بمآخذ الأحكام، فلو تبصر الناس في قواعد الدين لعلموا أن مآخذ الأحكام تعتبر فيها هذه الصفات من الصفات من الصفات الطردية التي تلغى، ومن بنى عليها حكما فإنه قد انحرف عن الجادة.
هذه بعض الخصوصيات، التي تعتبر من خصوصيات الفقيه: خصوصية الاستحضار، وخصوصية الاعتبار، وخصوصية الإحساس. وإنما انتقيت هذه الثلاثة دون ما سواها لضيق الوقت.
[مواضع الصناعة الفقهية]
هذه الصناعة لها مواضعها التي تظهر فيها، ويظهر فيها من يحسنها ومن لا يحسنها، وأهم هذه المواضع: الحمل، والتخريج، والتوجيه، والترجيح، والقياس، والترجيح بين المناطات.
الموضع الأول: الحمل؛ وهو أخطر أمر يقدم عليه المجتهد؛ لأنه مفتاح الاستنباط، فإذا سلم الحمل سلم الاستنباط، وكانت الثمرات على سداد، وإن وقع الخطأ في الحمل، وقع الخطأ في كل ما بني عليه، لذلك كانت عناية أهل العلم بهذا الموضوع شديدة، وكان لهم في ذلك ضوابط صارمة حاسمة، وإنما وجب الاعتناء بهذا الموضوع؛ لأنه هو الذي وقع فيه الآن أكبر خلل فيما يفتى به اليوم، وفيما يقال فيه من الآراء.
والحمل على ضربين: الحمل الأصولي، والحمل الفقهي.
* فالحمل الأصولي معروف بأنه يتميز بالإفراط والخلو من المادة والرواية، أو أنه لا يشحن بموضوع معين، ولذلك تجدون الحمل الأصولي يشتغل بعوارض الدليل العام، وعوارض جزئياته فقط، ولا يشتغل بشيء آخر، فعمل الأصولي أنه يشتغل بعوارض الكتاب، وعوارض السنة بأنواعها وأقسامها وما إلى ذلك، وعوارض سائر الأصول وجزئياتها، ولا يتخطى هذا القدر إلى ما سواه، وكان عمله موقوفا على هذا، ولا يمثل إلا في حالة الحاجة الشديدة إلى ذلك.
فالذين ينكرون على الأصوليين التقليل من الأمثلة لا ينظرون إلى هذه الجهة، وأن الأصل في الأصولي أن يدرس الصيغة مجردة غير مشحونة، مثلا: (لا تفعل) فيجب عليه أن يدرسها مجردة، أما إذا قال: (لا تصل، لا تجلس، لا تكتب..) فهنا قد خرج من علم الأصول، واشتغل بعلم الفقه؛ لأنه عيَّن الموضوع، وإذا عُين الموضوع وبحث فيه، فالمسألة فقهية وليست أصولية، وللتحقيق نذكر بهذا فقط على سبيل الاستطراد.
أما أصول الفقه لا علاقة لها بالزمان والمكان وتغير الأحوال، أصول الفقه مادة مجردة، غايتها بيان حقيقة الألفاظ التي تجعل أساس الاستنباط، وهذا هو المعروف المشهور الذي يشهد الواقع قطعا على ثبوته.
* والحمل الفقهي يتصف بأمور منها: وجوب رعاية الدلة كلها التي وردت في الموضوع، وهنا لا بد أن نقف عند تعريف الدليل؛ لأن الدليل عند بعض الناس، محصور في النص فقط، نص من الحديث أو نص من القرآن، فالدليل عند الفقهاء يكون دليلا لفظيا، ودليلا معنويا. الدليل المعنوي لا بد أن يشترك فيه أمران: النص والموضوع، ولذلك إذا كان الموضوع الذي ينظر فيه الفقيه قد اتصف بصفة من الصفات، فإن هاته الصفة بالنسبة إليه دليل، ولا يطلب على ذلك دليلا؛ لأن الصفة تجلب النصوص، فالأوصاف تجلب الأدلة، ويلزم أن تنزل هذه الأدلة على هذا الموضوع الذي ورد فيه هذا الوصف.
فلو أن إنسانا فعل فعلا، ثم سأل عن الفتوى، فأنت تسأله عن أمور تتعلق به هو؛ لأن تنزيل هذا النص على هذه الحال يجب أن يراعى فيه هذا الوصف الذي هو سبب شرعية تنزيل هذا النص.
لذلك فالدليل عند الفقهاء أصناف، فكل مناطات الأحكام عندهم أدلة، بالإضافة إلى الدليل النصي والأصول الأخرى، ومن ثم فإنك تجد أن الإنسان ينكر وجود الدليل، مع أنه أمامه واضحا بينا في موضوع النظر.
إذن في حالة الحمل الفقهي يجب أن تعلم أنك دخلت مرحلة معرفة المراد وليس الظواهر، وهنا تأخذ معك موازين متعددة، أحدها: إذا عرفت مراد الله لا بد أن تفتي به، هذا أصل، ولكن كيف تعرف مراد الله؟ حددوا لذلك أمورا:
أحدها: أن تجمع الأدلة، إذ لا يمكنك أن تعرف مراد الله في الموضوع حتى تجمع الدلة.
ثانيها: أن تحقق المناط، والذي يحقق المناط هم العلماء وليس العوام، فالعامي لا يجوز له أن يحكم بوجود المناط، لأنه لا يحسن التمييز بين الثابت من الحقائق والملغى، فتجد الإنسان عاميا يتكلم في أمر، ويصف الإنسان بوصف وحكم، ويرى أن المناط تحقق فيه، دون أن يعلم بأن هذا الأمر يحتاج إلى تصبر وفهم، ففي زمن النبي صلى الله عليه وسلم مع عليه الصحابة من جلالة وما هم عليه من فقه وقوة في فهم الشريعة نظرا للمعاصرة، قد أخطأوا في مسائل من هذا القبيل، فقد حكموا على بعض الصحابة بالنفاق، وحكموا على آخرين بأمور أخرى، فرد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأحكام؛ لأن المناط لم يتحقق. وهذا تنبيه لبعض الناس الذي ينزلون الأحكام على الأفراد والجماعات، دون أن يعرفوا الجهات المعتبرة في محل التنزيل بوجوب ارتفاع الموانع ووجود الشروط.
فلا ريب أن خللا كبيرا قد أصاب هذا الباب (فهم مراد الله تعالى)، وهو فن يجب أن نعلم أن فيه مذاهب، مذاهب من يقول بوجوب مراعاة المقصد والمراد الخاص والعام، لكي يُتمكن من تنزيل الشريعة على وجهها الصحيح، ومذاهب أخرى مبسوطة في كتب الأصول.
ولا شك أن الحمل الفقهي لا يتأتى بدون الحمل الأصولي، ويجب استصحابه، فمن تكلم في فهم مراد الله تعالى دون أن يستصحب معه أصول الفقه فإنه لا يمكن أن ينظر إلى الشريعة على ما هي عليها من حال، وإذا كان الإنسان قد انتهى من دراسة هذه المادة دراسة انتهى فيها إلى بيان مذهبه، مثلا: له مذهب في مواضع الاختلاف، وترجح لديه ما يجب أن يكون عليه الحكم، وانتهى من هذا الأمر على تمام، وقال: لي في الأمر مذهب، وفي النهي مذهب.. وهو على ثقة من أن هذا هو الحق، فهذا إنسان إذا دخل في حمل المراد وحمل كلام الله تعالى على التفسير، فهذا إنسان مخطئ؛ لأنه إذا عورض برأي المخالف وهو يرتبك ولا يستطيع أن يجيب، فهذا قد سلك مسلكا من مسالك الفتوى على خطر.
كيف تسأل الإنسان ماذا تقول في جزئية من جزئيات العام، وما مذهبك فيه، وهل تخصص بالسبب أم لا، وهل تخصص بعمل الصحابي أم لا، ثم بعد ذلك تجده ينزل عمل الصحابي هذا، ويجعله حجة دون أن يعرف الأساس، كل هذا يؤدي إلى الاضطراب في حمل النص على معناه.
كون الإنسان يحب السنة، ويحب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم هذا أمر محمود، ولكنه إذا كان لا يحمل معه أدوات هذا الفن، فمن الصعب أن يكون قادرا على التصرف في هذا الباب، هذا بإيجاز.
الموضع الثاني: التخريج؛ وهو بيان المَخرج، وهذا فيه ألوان وأنواع، والتخريج كما يؤخذ من لفظه، فيه بيان أن هذا الذي وقع له هذا الأمر قد وقع في انحباس، حيث وجد نفسه غلقت عليه الأبواب؛ لأن كل فرع فقهي لم يعرف له دليل فإنه يضيف به الإنسان، ويشعر بأنه لا يعلم مأخذه ولا دليله ولا من أين أتى، ويشعر بأن تمام الفقه قد حبس عنه، ولذلك يكون أصل التخريج للخروج من هذه الحال.
والتخريج على ثلاثة أضرب - أو أكثر من ذلك - لكن نذكر هذه الثلاثة:
1- التخريج على أصول الفقه: وهذا مجمع على صحته، فأنت تخرج الفرع الفقهي على أصل، فتقول مثلا: (هذا اللفظ يشمل كذا، لأنه عام..)، وتقول: (هذا الفعل واجب، لأن الأمر للوجوب ولا توجد قرينة تصرفه عن ظاهره..)، وقد كتب الناس في هذا الفن كتبا مشهورة منها: التمهيد للزنجاني، والتمهيد للإسنوي، والتخريج للزنجاني، والقواعد والفروع لابن اللحام، ويشبه هذا إلى صورة كيرة ما كتبه الدبوسي، واشتهر أيضا من هذا مفتاح الوصول للإمام التلمساني.
وهذا الضرب من التخريج يحتاج أيضا إلى فقه الأصول والعلم بالأصول؛ لأنك قد تخرج على وجه ضعيف فيكون ما خرجته ساقطا في الاعتبار لسقوط أصله، وأمثلة هذا الضرب مبسوطة في الكتب المذكورة.
2- التخريج على القواعد الفقهية: وهي القواعد التي أغلب صفاتها هي صفات للمكلف، وهذه من الفروق الأصلية في الفرق بين قواعد الفقه وقواعد الأصول، وقواعد الأصول وغيرها صفة المكلف والموضوع المحكوم عليه، فهي ليست صفات الأدلة، وإنما صفات المحكوم عليه أو الموضوع المحكوم فيه، مثلا: (المعدوم شرعا كالمعدوم حسا)، هذا وصف للمحكوم عليه، وقاعدة الاستحالة وغيرها. هذه هي القواعد والأصول التي تخرج عليها فروع الفقه، ويصح أن تبنى عليها الأحكام، وفيها تفاوت في القوة.
3- التخريج على فتاوى الأئمة: وهو الكثير والمتداول عند الأئمة، فيقال هذا منصوص وهذا مخرج، وصورته قياس فرع على فرع، فتقيس على ما قيس عليه، ويكون الذي خرجه إمام المذهب، مع أنه هو الذي شحنت به كتب الأصول، وقد عاب القرافي رحمه الله في الذخيرة هذا، وقال: بأنه لو عرض على إمام المذهب لأنكره. ومع ذلك فإن في مذهب الإمام مالك جملة وافرة منه كما يعلم بالاطلاع على كتب المالكية، ولذلك حذر العلماء من تخريجات المتفقهين، وقالوا بأن الفتوى بها حرام؛ لأن مأخذها غير معروف، وذلك لتعدد مدى جهات الأدلة، والعلل والمناطات، وربما يخرجها الفقيه الذي قال بذلك القول على أصل ثم يأتي هذا، ويعتقد بأنه خرج على أصل آخر، فيتبعه في الفرع مع الاختلاف في الأصل، وهذا كما يسمونه مركب الأصل، وهو ضعيف، والتمسك به من أضعف أنواع التمسكات في بناء الفروع على الأصول، وهو كثير جدا، ومعمول به، ويفتى به، مع أنه لا تصح الفتوى به؛ لعدم معرفة مأخذه على التحقيق.
الموضع الثالث: التوجيه؛ هذا أصل لا نحتاج إليه كثيرا، والمقصود به: بيان وجه المستند، وهو على أضرب: توجيه دليل، وتوجيه مناط، وتوجيه أصل.. الخ. والأهم في هذا كله: هو توجيه رأي، قد تجد كثيرا من طلبة الفقه المالكي، لما غاب عنهم القدرة على التوجيه يعيبون على مذهبهم أنه خال من الاستدلال، لعدم معرفتهم بهذا الفن، والصحيح أن طالب الفقه ذو المُنَّة في النظر، الذي مارس بناء الأحكام، يعرف أن الفرع فيه مأخذه ودليله، وفيه الوجه الذي يدخل به تحت الدليل، الفرع الفقهي بغير دليل إذا نطق به فإنك تستطيع أن تجد له مخارج ومخرجا فقهيا منه؛ لأن خصائصه الذاتية تحيلك على القاعدة المناسبة، أو على الأصل المناسب، أو على الجهة الفقهية التي يدخل تحتها، لذلك نفر الناس من الفقه لهذا السبب، وادعوا بأن مذهب مالك خال من الأدلة، ويقولون هذا في غيره من المذاهب.
وتوجيه الدليل بيان وجه الاستدلال، وهو يستعمل في عامة الفنون، لذلك فإنك تستدل بالحديث أو الأصل أو القاعدة، فيقال لك: ما وجه الدلالة على هذا الحكم، لأن الدليل حمال وجوه، والوجوه قد تكون دلالية أو معنوية أو مناطية، على حسب نوع الموضوع.
أما توجيه العلة فإنها توجه بالمناسبة، وذلك أن المالكية والشافعية والحنفية قد يختلفون في مناط مسألة، وكل سوف يأتي بما يراه علة، ولا يعتبر هذا القول حجة ما لم يذكر وجه هذا التخصيص ووجه هذا التعليل، وكيف فضله على غيره ورجحه عليه، والذي يهمنا هو توجيه الرأي الفقهي، وكثيرا يظن بعض الناس أن بعض المسائل الفقهية خلت من الوجه، والصحيح ما ذكرنا أن الوجه معروف من الفرع.
الموضع الرابع: ترجيح المناطات؛ وهنا تظهر المهارة الفقهية أيضا؛ لأن المناطات قد تتزاحم، والفقيه ذو البصر بأصول مذهبه يعلم الراجح منها من غيره مما هو معروف، فإنك قد تذكر الناس - مثلا - بأمر في باب الربا، فيذكرونك بالحاجة والمصلحة، وفي الحقيقة فإن ما ينظم نظر الفقيه في كل حركة من حركاته، هو تقديم البساط، ومعناه: أن تقدم تحت كل مسألة نظر الشرع، ولا يمكن أن توجه دون أن تضبط هذا الأصول وتحفظها وتكون على علم بها، فحينما تنظر إلى مسائل الدعاوى والأقضية دائما ما تستحضر الحديث المشهور: البينة على المدعي واليمين على من أنكر وهكذا.
وهذا البساط يجب أن تنطق به أولا، ثم تسترسل بعد ذلك في بناء الوجه أو بناء الحكم، فهذه طريقة الفقهاء، ولكن من ذكرته بالمسألة فلم يبدأ بالبساط، يقال بأن الرجل لا صنعة فقهية لديه؛ لأنه حينما تحدث تحدث مصروفا عن بداية الطريق في بناء الحكم، كذلك - مثلا - لو سألت إنسانا عن فعل بدني، يقول لك: أفعال الأبدان ليس فيها حكم مستقر وتختلف باختلاف الأحوال.. هكذا يبدأ الحديث، ثم يذكر لك بعد ذلك بعض التقاسيم والجزئيات، وهكذا المسألة القلبية، ومسألة الربا - مثلا - يذكرك بالنظر الشرعي فيه: باب الربا باب خطير، والكلام فيه لا بد أن يعتبر فيه الحرب الذي ذكره الله تعالى في نص كتابه، وأنا لا أستطيع إلا أن أستحضر هذا البساط الشرعي، ومن ثم لما انفصل الناس على بسوط المسائل ظنوا أن الفقيه يتشدد، الفقيه لا يتشدد، بل عينه على الإذن الشرعي في هذا المقام، فإذا ذكر له مسألة من المسائل في درء الحدود، فلا شك أن ستجد عنده ميلا إلى التخفيف، وسيؤثر ذلك في نظره؛ لأنه سبق له أن علم من النبي أنه قال: «ادرأوا الحدود عن المسلمين بالشبهات». فأثر ذلك في نظره كله، وكلما تحرى في الموضوع استحضر هذا الاعتبار، وما هذا الذي ذكرناه إلا مثال، وما سواه يلحق به، فيعلم أن نظر الفقيه دائما وحركته الفكرية والعقلية عينه وقلبه مع نظر الشرع الأصلي للموضوع.
وليس سفك الدماء كالحكم في الأموال، فسفك الدماء معلوم أنه من أصعب المواضيع في الفقه، ولذلك تستحضر فيه قواعد من أجل تحقيق هذا النظر الشرعي، ومن هنا ننبه إلى أن تنزيل القواعد الفقهية على الجزئية دون استحضار نظر الشارع خطأ، ومن ثم يوسعون قواعد في بعض الأبواب، ويضيقونها في بعض الأبواب، ويحذفون قواعد في بعض الأبواب، ويثبتون قواعد في بعض الأبواب، ليوافقوا نظر الشارع في ذلك الموضوع، فأنت لا تستطيع - مثلا - أن تبني على قاعدة الاحتياط في الدماء، فيشك في إنسان - مثلا - أنه قتل إنسانا، فيقال: نقلته احتياطا؛ ولو كان هذا الأمر مالا أو بابا آخر، فقد تأخذ فيه بالاحتياط.
فهذا معنى بساط المسألة أو ما يسمى: بالبسوط التي يقدمها الفقيه قبل حركته الفقهية في بناء الحكم، وهذا يحكم الفقيه، لا توجد ذكورة ولا أنوثة ولا طول ولا قصر، ولكن بساط الفقه، والنظرة الشرعية الأولى للموضوع تحضره، ومن ثم تجد أن الفقيه يجب أن يساير الشريعة في جميع مكونات فقهه، فالمذهب المالكي - مثلا - لا يعرف في هذا الباب إلا إذا استحضر هذا الاعتبار، فهو مما يمكن أن يلاحظ في القول المالكي دائما الخوف على الدين، وخوفه على الدين وحفظه للدين قد يؤثر أحيانا في استخدام بعض القواعد لتحقيق هذا المراد مع بعض المناسبات، ويحذف بعض القواعد وإن ناسبت، ليحقق نظر الشرع فيها، هذه قاعدة يجب استحضارها في كل الفروع من باب الوضوء إلى آخر أبواب الفقه.
فالرد على من يقول عن الفقهاء: ليس عندهم معيار علمي في استعمال القواعد، المعيار العلمي في الأصل: موافقة نظر الشارع في الموضوع، فإن كان خطرا، فالقواعد تحضر من أجل تثبيت هذا الخطر، وإن كان الأمر فيه خفيفا، فالقواعد تسير على وَفق هذا القانون، ولا يخرج عن هذا فرع من فروع الفقه.
الموضع الخامس: القياس؛ معلوم أن القياس عند القائلين به من أصحاب المذاهب المعتمدة، هو أمر يتعبد به، ومما يعلم أنه لا يمكن أن يدخل شيء في الدين إلا إذا كان مما أدخله الشرع، وهذا أمر محسوم، سواء كان هذا الإدخال عاما أو جزئيا، لذلك القياس إذا قبل، فإنه يقبل باعتبار الأدلة الشرعية النصية والعملية وفتاوى الصحابة وما شابه ذلك، فأصبح أصلا شرعيا، لكن استعماله له ضوابط، والقياس عند المتأخرين هو القياس على أقوال وفتاوى الأئمة، فالإمام أبو الحسن اللخمي رحمه الله - باعتبار أنه كان ضعيفا في الأصول كما يقول المازري رحمه الله - قد وقع له الخبط في هذا الموضوع، فكان يستعمل القياس مع عدم التنبه لوجود الفوارق، لعدم ممارسة هذه المادة ممارسة تمكن من الإحساس أن فقيه النفس هو الذي تقوم به الحقيقة، حتى إنه لو جاءه شيء لشعر به في نفسه ولأدركه، ولما كان رحمه الله لم يدقق في هذا الباب، انفلت منه هذا الأمر، فكان إذا استعمل القياس يغيب عليه كثير من الأمور التي تدخل تحت قاعدة: (لا قياس مع وجود الفرق).
إذن هذه هي مواضع المهارة في أصول الفقه والصناعة الفقهية، الحمل الفقهي، والتخريج بأصنافه الثلاثة، ثم التوجيه، ثم تظهر هذه المهارة في الترجيح بين المناطات المتعارضة فيما بينها، فخذ هذه الأمور واحفظها ثم انظر في الفتاوى التي تروج في الإعلام والتي تروج بين الناس هل وجدت فيها شيء من هذه الصناعة، والله أعلم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق